أجيال مع وقف التنفيذ

كتب / اشرف حيمد قفزان
في زوايا هذا الوطن المتعب، حيث تتعالى أصوات المآذن ممزوجة بأنين الفقر، تتجسد مأساة مزدوجة معلمون يناضلون من أجل لقمة العيش، وطلاب يتجهون نحو مستقبل مجهول. ليست هذه مجرد أزمة إضراب عابرة، بل هي نزيف عميق في جسد المجتمع ، ينذر بتداعيات كارثية على أجيال كاملة.
تخيلوا فصولًا دراسية تعج بالصمت، لا يكسره سوى رنين الذكريات الخافتة لأصوات المعلمين وهم يخطون المعرفة على السبورات. هذا الصمت ليس هدوءًا محببًا للتعلم، بل هو صمت قسري فرضه إضراب مستمر، يغذيه انقطاع الرواتب وشح الإنفاق الذي يعصف بحياة المعلمين. فمنذ سنوات، تحول المعلم - حامل الشعلة، وباني الأجيال - إلى رجل يكافح لتأمين قوت يومه، يبيع ما يملك، أو يبحث عن أعمال هامشية لا تليق بقداسة مهنته.
لقد دفعت هذه الظروف القاسية بأسر المعلمين إلى حافة الهاوية. فالأب الذي كان رمزًا للعلم والمعرفة في قريته، بات اليوم عاجزًا عن توفير أبسط مقومات الحياة لأبنائه. يرى أطفالهم يتضورون جوعًا، وأحلامهم تتبخر مع كل يوم يمضي دون راتب. هذا الواقع المرير لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة وجودية تدفع المعلمين إلى إضراب يائس، ليس انتقامًا، بل طلبًا للعيش بكرامة. إنها صرخة مدوية في وجه الإهمال الحكومي، الذي حول كرامة المعلم إلى سؤال يومي عن البقاء.
في الطرف الآخر من هذه المأساة، يقف الجيل القادم، يدفع الثمن الأغلى. فكل يوم يمر دون تعليم هو يوم يُقتطع من مستقبل طفل، ويُبنى عليه جدار من الجهل. عندما تغلق أبواب المدارس، لا ينقطع التعلم فحسب، بل تتسع فجوات المعرفة والمهارات بشكل يتعذر تداركه.
العواقب لا تقتصر على التحصيل العلمي المتدهور، بل تمتد لتشمل الآثار النفسية والاجتماعية المدمرة. فالطلاب الذين يشهدون هذا الشلل التعليمي يعيشون في حالة من القلق وعدم اليقين، مما يؤثر على صحتهم النفسية وقد يدفعهم إلى التسرب من التعليم، والانخراط في سلوكيات سلبية، والانجراف نحو مسارات لا تخدم تقدم المجتمع. إنهم أجيال "مع وقف التنفيذ"، طاقات معطلة، وأحلام مؤجلة قد لا تتحقق أبدًا.
ولعل أخطر ما في الأمر هو تعميق الفجوة الطبقية. فالأسر القادرة قد تلجأ إلى التعليم الخاص أو البدائل المتاحة، بينما تُترك الأسر الفقيرة التي يعتمد أبناؤها كليًا على التعليم الحكومي في مواجهة مصير مظلم، مما يوسع الفجوة بين طبقات المجتمع ويجهز على فرص الحراك الاجتماعي.
إن ما يحدث في هذا الوطن ليس مجرد أزمة بين الحكومة ومعلميها، بل هو تحدٍ وجودي يهدد بنية المجتمع ومستقبل الدولة. فالمعلم هو حجر الزاوية في بناء الأمة، وإهماله يعني هدم هذا البناء من أساسه. يجب أن يُنظر إلى مطالب المعلمين ليس كعبء مالي، بل كاستثمار حتمي في رأس المال البشري، الذي هو المحرك الأساسي لأي تنمية.
إن معالجة هذه الأزمة تتطلب جهدًا وطنيًا شاملًا، يبدأ بالاستجابة العاجلة لمطالب المعلمين وصرف رواتبهم بانتظام وبما يتناسب مع غلاء المعيشة. لكن الأمر يتجاوز ذلك ليشمل إعادة بناء الثقة في النظام التعليمي، وإدراك أن الحفاظ على العملية التعليمية هو واجب وطني ومجتمعي، لا سياسي أو اقتصادي فحسب.
المستقبل لا ينتظر. وإذا لم يتم تدارك هذا الوضع، فإننا قد نواجه جيلًا من الشباب غير المتعلم، وغير المؤهل، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمات وتصاعد الفوضى، وتأخير أي فرصة للنهوض. إنها صرخة تستوجب الاستماع، ومأساة تستدعي التحرك، قبل فوات الأوان.
هل نرى مشروعا (جادا) لتطويع المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية المساهمة بفاعلية أكبر في دعم استمرارية التعليم وتخفيف معاناة المعلمين؟
اقرأ أيضاً

قبيلة العصارنة السيبانية تنفي شائعات رفضها لمعسكرات حلف قبائل حضرموت وتؤكد ولاءها الكامل للحلف
جريدتنا اليومية
انضم إلينا لتبقى مواكباً لأحدث
التطورات المحلية والعالمية